نيسانات لا تنسي








الوطن ليس بأرض وسماء وحدود ،  الوطن عندى وعندهم هو الناس الذين عاصرناهم،  هو ذلك الوقت الذي يلازم  العمر مسجلا كل أحداثه يوما بيوم وسنة بسنة ومرحلة بعد مرحلة، هو نخلة تقف في طريق صغار من وإلى المدرسة تلقي عليهم تحية الصباح والمساء، تحنو عليهم وتطعمهم بضع تمرات تستجدى الرياح لتحرك أغصانها فتسقطها لاجل خاطرهم. هو قلب عاشق يكتب بالفحم أغنيات محمد وردى على الحوائط البيضاء، هو شيخ  يبتسم للمارة ويدعو لهم بالصلاح، هو جيران كما الاهل ولا فرق اطلاقا، هو شمس تشرق وتغيب وعينها علي المتعبين تتابع يومهم وتمسح على رؤوسهم قبل أن تغيب، هو قمر يفرح بمؤانسة الساهرين على الرمال الصفراء،  هو إبتسامة رجل زاهد بجلباب عليه رٌقع خضراء وعلي عنقه مسابح ملونة ، هو براءة ملامح وجه 
.حمّد الجزازير، و أخيرا هو نغمات "بورى نيسانات" أبو الدرك  محمد ابراهيم و طالب خليل ومحمد كملكول.
هذه الاخيرة تبقي مكانا فسيحا لمجموعة من الذكريات في قلب كل من سافر مع  أو عاصر هؤلاء الثلاثة عبر 
سفريات دنقلا - الخرطوم ، ودنقلا خط الشرق تحديدا. ونحن أطفال كانت نغمات البص القادم من الخرطوم صخبا يزرع الفرح والطرب في أرجاء البلدة ، ولكل سائق "دقة بورى" معينة يعرفها الجميع . محمد إبراهيم أو "أبو الدرك" كما يلقبونه رجل خلوق له وجه بشوش وإبتسامة طيبة . أذكر بعض مقاطع من أغنية كان يرددها أطفال الحى وهم يعدون خلف البص الذى يعزف لهم بسخاء وهو يتمايل على الرمال راسما طريقه فوقها فتختلط النغمات باصواتهم وهى تتغني : ( الابيض قام يا سلام .. خلى الدنيا ضلام يا سلام .. حبيب اهله يا سلام .. قالوا لى رحلوا يا سلام .)   وهناك  أيضا طالب خليل، ذلك  الرجل النبيل و الذى به هيبة تجعل الكل  يحبونه لانسانيته المفرطة ورقة قلبه ، وبالطبع صديق الجميع محمد كملكول، هذا الرجل الساخر والذى تملأ حكاياته في ذلك الوقت كل المجالس . أذكر عنه إحدى رحلاتى النادرة معه وأنا طفلة أرافق جدتى من الخرطوم إلى دنقلا و كان كل الركاب تقريبا  رجال وسيدات  اغلبهم من عمر جدتى  ينتمون لعائلة واحدة  قادمين من عزاء قريب لهم ، و حينما دخل الى البص يتفحص وجوه الركاب ،  خيل اليّ أنه ربما  يبحث عن أنثي جميلة تضفي بوجودها بعض الونس وبعض اللين على تلك الصحراء القاحلة والفيافي المقفرة ورياح السموم القاسية ،و تقصر المسافات الطويلة، وتبدد ملل تلك الساعات الثقيلة التى تتجاوز ما يعادل يوم ونصف اليوم، لكنه لم يجد غير وجوه متغضنة حزينة ومتعبة . كنت أراقب تعابير وجهه المكتئبة وهو يتجول بعينيه فوق سحنات الجميع  حينما إستدار بخيبة وأمر مساعده بأن يغلق باب البص قائلا بلهجته المميزة: (يا ولد.. أقفل الزريبة دا.) لم اسكت عن الضحك يومها حتى انتهرتنى جدتى ورمقنى الآخرون بنظرات غاضبة كونى لم أحترم حزنهم.
وإلي جانب هؤلاء هناك الراحل صابر جرا والذى غادر دنيانا باكرا ، لكنه ترك إرثا جميلا باخلاقه العالية وحسن تعامله مع الناس، حتى أن المبدع صديق أحمد تغنى عنه بأغنية تحمل إسمه ( وين يا صابر جرا)  إذ يقول فيها:
وين ياصابر جرا
سمّ بإسم الله وقرأ وفارق أم درمان غادرا
بالمويلح قام سادرا والدروب أصلو هو خابرا ..
دى البلد ريفها وبندرها ليك بتشهد بالمقدرة
الي أن يقول واصفا مدى مهارة الراحل في القيادة:
فلخ الرملة مقنطره .. جا ماشي فيها قطع مسطرة
سرعة النيسان كترا.. قوة اليابان فترا
والسواقة انت مكنترا .. وفيها ماخد كم دكترا
رحم الله ذلك الزمان الجميل بناسه وأخلاقه وبساطته حيث كان سائق البص وحده رئيس دولة وراع مسئول عن رعيته، ينظر اليه الناس على أنه رجل خارق فيأتمنونه على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم . وكانوا  أكثرهم على قدر المسئولية واكثر. رحم الله من رحلوا وأثاب خيرا من هم على قيد الحياة وبارك فيهم ولهم ، وأمد في أعمارهم ومتعم بالصحة والعافية.


Comments

  1. صورة رائعة وحكي جميل وكتابة راقية، كنت دائماً في طفولتي ما أنظر " للوري" تلك الشاحنة التي لا تميز بين الإنسان و شوال القطن و العيش عندما يقرر السائق بعبور المطبات في منتصف الليل. هذا السائق عندما قال للمُساعِد " اقفل الزريبة" شعرت بذات الشعور الذي ينظر لرفيقه في "اللوري " عندما يسقط عليه شوال العيش و
    وهو يقول : انا ناقصك يا شوال....!
    إبراهيم

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

مقارنات بين القصة القصيرة والرواية

الواقعية السحرية كمصطلح أدبي

ما بين المظهر والجوهر .. أشياء وأشياء