الحسنة في المنعول










كان لجيران جدتى رحمها الله وإياهم  وأسكنهم فسيح الجنات كلب قوى وضخم يستخدمونه لحراسة حظيرة 
الابقار لديهم . ولأنه شرس كثرت عنه شكاوى كثير من  الأهالى  لكونه يخيف أطفالهم ويهدد سلامتهم . فرأى أصحابه أن يربطوه  إلى جذع شجرة في أحد أطراف بيتهم الكبير.  وفي يوم وأنا في طريقي من المدرسة إلى البيت دخلت الى بيت الجيران كى أغيظ كلبهم المربوط وأستفزه فهو لن يستطيع القفز خلفي مهما حاول ، فقد رأيت أنه قد قيد إلى جذع الشجرة بسلسلة حديدية طويلة نوعا ما  تسمح له بالتجول حولها لأمتار قليلة . وقفت بعيدا وابتدأت أقفز في مكانى فلم يعرنى إهتماما ، بل رفع أذنيه ورمقنى بنظرة حزينة ثم أدار عنى وجهه للجهة الأخرى كأنما يقول لى اذهبي إلى حال سبيلك وأتركينى . نظرت إلى الطبق البلاستيكى الى جانبه فوجدته فارغا من الماء والوقت بعد منتصف النهار والشمس حارقة والأرض تحته لولا ظل الشجرة ما استطاع التمدد عليها .
ذهبت إلى سيدة المنزل وأخبرتها أن الكلب بحاجة إلى الماء . فطلبت منى أن أهتم به إن كنت أرغب في ذلك. ولأنهم كانوا يطعمون الفقير ويكرمون الضيف فقد خصصوا (زير) كبير يملأونه باللبن الحليب لمن أراد من أهل الحى أو الاحياء المجاورة ، فغرفت لكلبهم  منه الكثير ووضعته على مسافة بعيدة خوفا منه . قام المسكين لاهثا ولم يسمح له قيده بالوصول الى طبق الحليب ، فتشجعت وحملت الطبق اليه خطوة أخرى وصرت أٌقربه منه بيدين مرتجفتين حتى تمكن منه فشرب وأرتوى. وذهبت لأخبر جدتى بشجاعتى وكيف إننى اليوم أطعمت كلب الجيران وإنه ليس بالكلب الشرس كما يبدو عليه ، فحذرتنى  وطلبت منى أن أتركه لشأنه ، وقالت تُضمّن كلامها أحد أمثالها الشهيرة والذى علق بذهنى حتى هذه اللحظة :  عندما يغدو حرا طليقا سيعود لسيرته الاولى ولن يعرفك (فالحسنة في المنعول زى الشرا في القندول .)
وأصبح إطعام الكلب السجين واجبا مقدسا أقوم به كل يوم بعد عودتى من المدرسة. اذهب الى بيت الجيران وأغرف له الكثير من الحليب أمام سمع وبصر أهل البيت وأضعه أمامه ثم أذهب ، حتى أننى خصصت له طبقا آخر من الماء حتى لا يصيبه العطش بقية اليوم.  ويوما بعد يوم نمت إلفة بينى وبينه ، و بات عندما يرانى يقف ويهز ذيله ويطلق نباحا لينا وخافتا لا يخيفنى ولا يجعلنى أجفل منه ، لكن رغم ذلك لم أستطع الاقتراب منه أكثر من تلك المسافة التى تضمن لى وصوله إلى طبقي الماء والحليب.
وكالمعتاد بعد أن أنتهى اليوم الدراسي ذهبت أؤدى واجبي نحو الكلب المسكين ، وإتجهت الى الشجرة حيث يوجد ولكن ما أن شاهدنى حتى قفز نحوى وهو يلهث ، وعاد خوفي القديم منه و أصابنى الرعب ، فقد كان هذه المرة طليقا . أخذت أصرخ وأجرى وهو خلفي وكل من في البيت خلفنا ، خرجت إلى الشارع وصرخاتى وصرخات الناس خلفي تزعج قيلولة الظهيرة داخل بيوت الحى . لم يتراجع الكلب عن ملاحقتى وخانتنى قواى ووقعت على الأرض وظننتنى هالكة لا محالة. ولكنى وجدته فوقي يحتضننى ويمسح بلسانه المبلل باللعاب وجهى وشعرى وعنقي . كنت أبكى بفزع وهو يمسح بلسانه على وجهى كأنما يهدئنى ، وهدأت بالفعل و أنا أنظر في عينيه ، فلم يكن بهما تلك النظرة الغاضبة المصاحبة لنباحه العالى ، كان يبدو وكأنه يبتسم . ومددت يدى لأول مرة أتحسس فروته الناعمة وأمسح على رأسه الكبير وإبتسامتى تختلط بطعم التراب و دموعى ولعابه على وجهى ، وضحكات الجيران وتعليقاتهم على منظرى المزرى أتبين من بينها صوت جدتى الغاضب وبيدها عصا ضخمة، وفي ذهنى صوتها يردد: ( الحسنة في المنعول زى الشرا في القندول) وأنحنيت على الكلب صديقي أتلقي عنه ضربات عصاتها وأنا أهمس لنفسي.. كلا يا جدتى أنت مخطئة .. الحسنة تظل حسنة و إن الجميل وإن طال الزمان به .. فليس يحصده إلا الذى زرعا.  


Comments

Popular posts from this blog

مقارنات بين القصة القصيرة والرواية

الواقعية السحرية كمصطلح أدبي

الرفيق قبل الطريق