ذكريات من زجاج لا ينكسر








سمعت صوت شيء يتكسر .. لا أدرى لما انزعجت وأنقبض قلبي فليست المرة الأولى التى يكسر فيها  أطفالي  كوب أو طبق .. تثاقلت في النهوض من سجادة الصلاة حينما جاءنى صوت طفلى الاوسط غاضبا يؤنب أخيه : " لقد كسرت الكوب المفضل لدى أمى .. كسرت الذكرى التى تحتفظ بها عن والدها ".. فازداد بكاء الآخر وهو يعتذر انه لم يكن يقصد .. مسحت دموعى التى انهمرت قبل أن ارى الكوب حتى ،وحاولت أن اسيطر على غضبي وانا أخطو ألى حيث يتناثر الزجاج كاشلاء شخص عزيز على قلبي .
ذلك الكوب لم يكن مجرد كوب ، بل كانت انفاس أبي فيه .. كان يحمل ذكريات عديدة على يده البلورية المضيئة ، على قامته العالية ورسوماته المحفورة ، ذكرى أمسية حددت مستقبلي في شرفة بيتنا المطلة على ذلك الشارع الهادىء نوعا ما .. حينما ملأته بشراب الليمون المخلوط بالعنب الأخضر وحملته الى أبي الذي كان يجلس في الشرفة ونسمات هواء عليل تضيف للامسية خصوصية محببة .. حينما جلست قبالته ولأول مرة يحادثنى أبي المتحفظ دائما في الحديث عن أمورى الخاصة  في شأن زواجى من قريب له . كان يعلم رفضي .. وكنت أعلم أن العشيرة لأ تعترف إلا برأى والدى .. كنت ممزقة .. هل أقبل بتلك الزيجة فقط لأجل ألا أحرجه أمام قومه.. أم أظل على موقفي؟ كنت لا أدرى ماذا افعل . حينها أمسك أبي بيد الكوب الذى عمره من عمرى وارتشف من الليمون البارد بضع رشفات ومسح شاربه بيده وقال وهو ينظر في عينيّ بحنان نفذ الى قلبي فأضعف إرادته .. أخبرنى أننى حرة في رأيي وإنه لن يجبرنى إطلاقا على زواج لا أريده . سألته : وانت يا أبي ؟  عاد ليرتشف من الليمون مرة أخرى ثم ليقول لى: أنا والدك .. انت ابنتى . عدت لأساله مرة أخرى .. وعرف العشيرة يا أبي .. واعمامى  ماذا سيقولون ؟ 
إحتسي ما تبقي في الكوب من شراب وقال وهو يضعه بين يدى الباردتين : سيقولون أنا لا اجبر ابنتى على أمر لا تريده .. إن بقيت اليوم معك أستمع لشكواك واذود عنك .. فغدا لن أكون .. لا أريدك أن تقولى بحرقة ألله يسامحك يا أبي على ما فعلته بي .. اريدك أن ترفعى يديك الى السماء وتدعى لى بحب كبير .. سيتقبل الله دعواتك وسأكون دائما في قلبك .. فأنا لم أظلمك يوما.
ساعتها أحتضنته وبكيت كما لم ابك في عمرى .. وظلت تلك الامسية مرتبطة بذلك الكوب .. وبنظراتى المرتخية تتحسس تعرجاته ويده البلورية وأنا استمع الي كلمات والدى التى كانت دافعا كبيرا لاكون ما أنا عليه الآن ، وكنت الفتاة الاولى في العشيرة التى قالت لا .. والتى آزرها والدها ووقف الى جوارها غير مهتما بغضب البعض ولا بتقريعهم . ومات أبي .. رحل الى الرفيق الاعلى .. وبقي في قلبي كما قال .. الا أن أكثر ما حفظته من كلماته كان ذاك الذى بيننا في تلك الامسية .. حديث الشرفة بحضور ذاك الكوب الذى أخذته هو وطاقية أبي وكوب آخر كان لا يشرب الشاي الا به كي احتفظ بهم وأحكى لاطفالى عن جدهم الذى حال الموت بينه وبينهم.
أشلاء الكوب العزيز حملتها ودموعى الكثيرة تحجب الرؤية عن غير ما في دواخلى .. وصورة  وجه أبي تطل مع ذكريات عديدة كان الكوب حاضرا فيها .. تزيد من وجعى وتجعلنى اجهر بالبكاء فيتحلق اطفالى حولى يواسوننى ونظرات حزينة داخل اعينهم التى لا تفهم ما يدور في اعماقي من حضور كثيف لذكريات عديدة .. أحتضنت الصغير الذى كسر الكوب اخفف عنه شعوره بالذنب لحرمانه لى من ذكرى عزيزة لأبي .. وذهبت الملم بقية الزجاج المتناثر والصقها وأضع بداخلها نبتة خضراء . فذكريات الذين نحبهم لا ترحل ولا تموت ولها الف صورة كي تبقي أمام اعيننا كما في قلوبنا.

Comments

  1. نووووووووووووووووووون غلبني التعبير يانون كانك بتحكي عن وجع بداخلنا وذكري للاسف حين ماتت امي كنت بعيدة لازلت اهفو لكوب او حتي قميصها الذي يحمل رائحتها كقميص يوسف يرد الي بعض روحي نعم الذكري تبقي رغم غياب اصحابها

    ReplyDelete
  2. رحم الله ابي ووالدتك وجميع موتى المسلمين .. اشياءهم التى التصقوا بها والتصقت بهم لعمر طويل تحمل الينا حضورهم وان غابوا .. رحمهم الله واسكنهم فسيح الجنات

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

مقارنات بين القصة القصيرة والرواية

الواقعية السحرية كمصطلح أدبي

الرفيق قبل الطريق