الرؤية النقدية حول رواية رسم قديم للناقد الدكتور عز الدين ميرغنى








البصيرة الفنية والحساسية الاجتماعية في رواية نفيسة زين العابدين
(  رسم قديم )
عز الدين ميرغني
في رواية الكاتبة ( نفيسة زين العابدين ) الأولى ( رسم قديم ) , والتي طبعت في ( دار أوراق ) , في القاهرة في العام الماضي , وهي تعتبر الرواية الأولى المنشورة لها . نكتشف فيها البطلة ( الدكتورة تهاني ) , وهي تقوم بالفعل الروائي . فالكاتبة لم تقع فيما يسمى بالوصف الديكوري الظاهري وتكتفي به , كما تفعل بعض الروايات النسائية . لقد دخلت الكاتبة نفيسة زين العابدين , وهي معروفة كقاصة , قبل أن تكتب الرواية , دخلت في مغامرة سردية محسوبة العواقب , وقد أمسكت جيداً بالتوازن السردي والحدثى في روايتها منذ البداية وحتى النهاية . وهذه المغامرة السردية , تأتي بتسليمها لحبل السرد The narration  , إلي البطلة أو الشخصية الرئيسة في الرواية ( الدكتورة تهاني ) , لتحكي حياتها بضمير المتكلم . ( الأنا ). وهو أسلوب سردي صعب , يتطلب في المقام الأول لغة ساردة أقرب للغة التيارية الاعترافية , وفي المقام الثاني , أن تناسب مقام الراوية أو الساردة الاجتماعي , فهي طبيبة متعلمة . وينبغي أن تقنع القارئ بما تقوله وبما تفعله . وفي المقام الثالث , هو أن تتابع البطلة الراوية وتسيطر على كل دائرة الأحداث التي ترويها , شاركت فيها أم لم تشارك , أي أن تكون أشبه بالراوي العليم , وقد تجاوزت الكاتبة بالبصيرة السردية ومعرفتها الفنية بالرواية أن تجتاز بنجاح كل تلك الصعاب .
   لقد استفادت بمعرفتها وبصيرتها الفنية , في الاستفادة من كل تقنيات السرد الحديثة , في الاقتصاد في التعبير , والذي كان يواكب سرعة الأحداث في نصها الروائي . وحتى يشبع فضول القارئ المتلهف لمعرفة مصير بطلته ( الدكتورة تهاني ) . تلك الطبيبة الشابة , والتي كان هدفها النجاح وتحقيق ذاتها , ولكن بعد أن وصلت مرحلة الخوف , من أن يفوتها قطار الزواج . رغم وثوقها من نفسها وجمالها وعلمها , ولكن يأتي الخوف من نفسها , ومن معرفتها كطبيبة , بمحدودية جسدها في الولادة والإنجاب , فقد وصلت في العمر إلي الثامنة والثلاثين . ويأتي أيضاً من خوفها من المجتمع حولها , وهو يتمثل في هذه الرواية في زوجة أخيها , وجاراتها . تقول في بداية الرواية : ( كنت أنتحب بألم على كتف صديقتي ليلي , وأنا أحكي لها عن زوجة أخي , وكيف أنها لعنتني بالعانس التافهة , أنا تقول عني عانس ؟ ) . ولا شك بأن الكاتبة , قد نجحت منذ البداية وفي عتبات الرواية الأولى , أن تلفت القارئ إلي مأساة البطلة الدكتورة تهاني . وأن تجعله مصغياً ومتابعاً بتحفيز كبير لمتابعة حياة البطلة ومعرفة مصيرها . والمثير في ذلك , أنها تروي قصتها بنفسها وليست بواسطة غيرها . وليكتشف بأن لب الدائرة السردية وثيمتها الرئيسة هي العنوسة وسط المتعلمات . وخاصة عندما تحقق الفتاة كل أحلامها , ويبقى فيما لا يكون بيدها تحقيقه ألا وهو الزواج .
   إن تحليل مفردات وجمل المقطع الأول في الرواية ( ضربة الاستهلال) والبداية في الرواية لها تحفيزها في مدرسة الشكلانيين الروس . تجعل المتلقي يكتشف منذ البداية معاناة البطلة , في مجتمع لا يرحم العانس , ولا المطلقة , ولا يتركهما في شأنهما ( تعيير زوجة الأخ للبطلة بالعنوسة ) , والكاتبة منذ البداية , قد دخلت بنصها , إلي مرحلة الحساسية الخاصة للبطلة , والذي يتمثل في الخوف النفسي , والخوف الاجتماعي . وهي كتابة لم تطرقها الرواية السودانية , والعربية إلا قليلاً . وقد كان الصراع النفسي الذي تعاني منه البطلة هو هذا الخوف من المجتمع الذي حولها , والخوف من الحقيقة الجسدية التي تعرفها جيداً بحكم عملها كطبيبة . وكما يقول ( لوسيان جولدمان ) في كتابه ( في البنيوية التركيبية ) , ( يرى غولدمان , أن الصفة الجماعية في العمل الفني والإبداعي , هي أمر بديهي لا يناقش . إذ يعتبر أن هناك علاقة عضوية بين العمل الفني المتميز والمجتمع الذي شهد نشأة هذا العمل ) . وهذا الموضوع , وهو موضوع العنوسة في هذه الرواية , يجعل تحفيز القارئ يدخل في تحفيز الواقعية كما يقول ( لوسيان جولدمان ) . وفي هذا يقول الدكتور محمد برادة في كتابه ( الرواية ذاكرة مفتوحة ) : ( القراءة , في الأساس , لا تقصد إلي التثبت من وقائع أو أفكار جامدة , بل هي تفاعل بين النص وذاكرة القارئ , بين مخيلة الكاتب وفكره وبين ذات القارئ المخترقة بتجارب وأفكار ومشاعر مغايرة , والتي تبحث عن معنى وتأويل يستجيبان لأسئلتها الخاصة . من ثم ينفتح النص التخييلي على معان محتملة أو افتراضية يكتنزها النص الروائي أو تقبع في ظلاله ) . والكاتبة قد دخلت بموضوعها الرئيسي , إلي دائرة مغامرة الكتابة , وليس كتابة المغامرة , لأنها تتطرق إلي موضوع قديم ومتجدد , وينبغي أن تواكب وتوائم بين ما هو قديم وما هو متجدد , وما هو عادي وما هو في غاية الحساسية .
   لقد كانت البطلة ( تهاني ) , هي صاحبة البطولة المطلقة في رواية رسم قديم , وهي قطب الرحى في السرد , ولكنها لم تستأثر به كله , ولم تتقوقع في محارة ذاتها ومأساتها , وإنما روت وحكت مآسي من حولها أيضاً . وكيف حاولت أن تحلها بما تستطيع . وبهذا استطاعت الكاتبة والقاصة نفيسة زين العابدين , أن لا تجعل السرد مراوغاً ومنحصراً في جزيرة منعزلة في داخل بطلة النص . فهي ليست مريضة نفسياً , وإنما هي شخصية اجتماعية ومن الطراز الأول . وتقوم بكل واجباتها . فهي طبيبة ناجحة , وفتاة متدينة , تسجد لله شاكرة كلما وُلد طفل على يديها . لقد أكدت الكاتبة لأصحاب مدرسة النقد النسوي , بأن السرد النسائي , يملك كل مقومات الحداثة , بحيث أنه يمكن أن يعلن حضوره بجدارة في كشف المستور والحديث عن قضايا المجتمع الحديثة والمتجددة . ( الواقعية الاجتماعية النقدية ) . وخاصة عندما تكتب المرأة في أدق خصوصياتها . ولكن ابتعدت بمهارة عن كتابة الجسد الأنثوي وأشواقه نحو الآخر , وكان في إمكانها أن تفعل ذلك , وتثير من يستثار بمثل هذه الكتابات . ولكن تجاوزت كل هذا ببصيرة فنية قوية , فرغم معاناة البطلة ( الدكتورة تهاني) , النفسية والاجتماعية , ولكنها لم تكن تحن وتشتاق إلي الرجل الجسد , وإنما كانت تحن إلي الرجل الأب والمسئول , ذو الخلق . وكانت أشواق الأمومة عندها أقوى من أشواق الجسد , رغم أهميته التي لم تنكرها . وفي هذا تتداعى وهي تقول : ( فأنا طبيبة وجميلة , ولكن هي القسمة والنصيب , لست محظوظة فيما يخص الزواج , لم أفكر يوماً في أن تكون لي علاقة غرامية برجل , أو أن يعترض طريقي حب ما , كل ما كنت أفكر فيه , هو أن أكمل تعليمي , وأن أحقق حلم والدي , وأن أصبح طبيبة ناجحة . وقد كان .. لم أفكر في الزواج إلا عندما مارست المهنة , حينما كانت تنشأ بيني وبين الأطفال علاقة حب , منذ أول مرة وأنا اسمع دقات قلوبهم الصغيرة في أرحام أمهاتهم ...) .
    إن الكاتبة هنا تكتب نصها بوعي وحساسية جمالية عالية وهي تكتب نفسية بطلها , وتكتب بحساسية اجتماعية قوية وهي تعرض رؤية مجتمعها للفتاة التي فاتها قطار الزواج , وليس لها دخل في ذلك . وهي بذلك تكتب المرأة الإنسانة والتي هي جزء من هذا المجتمع الإنساني العريض . لأن مشكلة العنوسة , هي مشكلة إنسانية موجودة في كل مجتمعات العالم القديم والحديث , المتحضر , والمتخلف . إن عدم استغراق البطلة في سرد حنايا الجسد , أو حنينه , فإنها تكون قد تخففت بمهارة كبيرة من ثقل وهم تلك المهمة السردية الشاقة , والتي قد تدخلها في متاهاته ولغته الخاصة والتي قد يرفضها الرقيب الداخلي للكاتبة . وقد يرفضها الرقيب الاجتماعي والذي يمثله القارئ في أغلب الأحيان . وقد اكتفت الكاتبة لتبث حنين الكاتبة إلي الرجل بكتابة وبجمل رصينة ومقبولة , فتقول البطلة وهي تتداعي في مونولوغ داخلي فيه رمزية عالية وهي تشارك زوجة أخيها طقوس جلسة الدخان : ( جلست وتدثرت بثوب الهزاز وجاءت هي تلف حولي الغطاء جيداً حتى لا تشرقني سحب الدخان الكثيفة , لأنني لا أفهم فيه , ولا في أبجدياته , شعرت بالإثارة ومسامات جلدي تتفتح ويخرج منها العرق . والرائحة الذكية تجعلني استنشقها حتى آخر جوفي . وأغمضت عيني أحلم من جديد , وأتمنى أن أتباهى بلون بشرتي الذي يشبه جدائل القنقر الناضج ..) . وبهذا المقطع السردي , تؤكد الكاتبة استخدامها بجدارة , لوعيها الأنثوي , فيما يعرف في علم التحليل النفسي للأدب ( بالاسقاط الفني ) , والذي يعرفه علم النفس المشهور ( كارل غوستاف يونغ ) , بأنه العملية النفسية والتي يحول بها الفنان تلك المشاهد الغريبة , والتي تطلع عليه من أعماقه اللاشعورية , ويحولها إلي موضوعات خارجية يمكن أن يتأملها الآخرون ... وهي تختلف عن الإسقاط النفسي في الكتابة والتي تحول حياة الكاتب الخاصة إلي داخل النص المكتوب . فالبطلة ( تهاني ) , في النص , قد استخدمت مكياج المرأة المتزوجة , والتي تهيئ نفسها لزوجها ( حفرة الدخان ) . وفي هذا رمزية عالية في كتابة الجسد دون الدخول في آيروسية مملة ومتكررة . وقد تكون خصماً على الكاتبة , ولن تضيف لها شيئاً . ويمكننا القول بأن رواية ( رسم قديم ) , بأنها رواية تحتفل بالجندرة دون صنعة متكلفة . فالبطلة شخصية نموذجية , حية ومنفعلة بقضايا المرأة دون أن يشغلها همها الخاص عن ذلك . فهي وفية للصداقة منذ البداية وحتى النهاية , والتي تضحي من اجلها بحبيبها لتتزوج زوج صديقتها التي ماتت في الولادة , لتربي لها أطفالها , وحتى صديقتها ( ليلي ) , والتي ماتت , قد تزوجت من زوج أختها لتربي عيالها . وتسأل عن العلاقة القديمة مع ( عمر ) , حتى لا تجرح صديقتها . ولقد ضحت بزواجها من مهندس مقتدر وناجح , والذي أراد أن يتزوجها , وهو أب ومطلق , وذلك عندما قابلت زوجته واكتشفت بأن إحدى بناته حاولت الانتحار لعلمها بمحاولة زواج والدها . وأن طليقته رائعة وتستحق أن يعود إليها . لقد أرادت الكاتبة أن تنتصر لبنات جنسها , لتجعل من بطلتها شخصية نموذجية ومثال للتضحية والإنسانية . وقد أرادتها شخصية مدورة Round character  , فاعلة ومنفعلة , وليست شخصية مسطحة Flat character , سلبية وغير فاعلة
    لقد تخطت الكاتبة بذكاء كبير , الوقوع في فخ كتابة رواية السيرة الذاتية , لأن شخصياتها شخصيات واقعية موجودة في المجتمع . رغم أن هذا لا يعني بأنها رواية تسجيلية لوقائع تحيط بالكاتبة , والخيال له دور كبير فيها , ( الخيال الذي هو قابل للحدوث ) . بمعنى أنه خيال اتبع المسار المنطقي للأحداث فلم تخرج الشخصيات عن مسارها الاجتماعي الذي تعيش وتحي فيه . فالرواية خاضعة لمنطق الواقع دون أن تتمرد عليه . فالبطلة تحقق ذاتها بإنسانيتها , ولم تخرج عن مسار تربيتها , فهي جاهدت لتحقق حلم والدها , ولا تزال تحتفظ بملابس والدتها حفاظاً على ذكراها بداخلها . لقد كتبت روايتها بمعمار سردي قوي ومتماسك , فكل حدث جديد يكمل الآخر دون ينفصل وحده عن مسار الأحداث والنسيج السردي , وكل شخصية ثانوية كانت في خدمة البطلة . وفي خدمة المعنى الذي أرادته الكاتبة .
لعل النهاية والتي قد تكون مخالفة لأفق التوقع عند القارئ , قد أرادتها الكاتبة لتؤكد قيمة التضحية والوفاء للصداقة في شخصية بطلتها المثالية . وهذا ما يجعل الرواية ليست حكاية طويلة مسلية , وإنما هي رواية محكى حياتي . قد نمر علي أحداثها كحكاية عادية في مجتمعنا , ولكن ليس بهذه التفاصيل الدقيقة , والصراع النفسي , والدخول في حنايا النفوس الداخلية . تلك الرواية التي صاغتها بلغة رصينة ومنسابة , وليست عصية على الفهم ودون أن تغير مسار الأحداث ودون تفقد الرواية تماسكها واتزانها . صحيح أن صوت الراوي كان بلغة واحدة , وهو صوت البطلة , ولكن كان اختيار الروائية ( نفيسة زين العابدين ) للغتها الروائية كان واعياً , وبعناية , فلغتها مستنسخة وليست متشاعرة , أو مقلدة لموضة لغوية سائدة فلها خصوصيتها الجمالية المستقلة .  

Comments

Popular posts from this blog

مقارنات بين القصة القصيرة والرواية

الواقعية السحرية كمصطلح أدبي

الرفيق قبل الطريق